منذ أن انسحب اليهود من المشهد التجاري في المغرب، تقاسم الأمازيغ وأهل فاس الريادة الاقتصادية، وبدا وكأنهما يوزعان الأدوار، حيث اشتغل الطرف الأول في مجال التجارة بالتقسيط قبل أن يقتحم عالم المقاولة، لاسيما في مجال النقل والصناعات الغذائية على غرار مول أتاي وأيت امزال وعابد وبوفتاس وأكوزال وأكورام وأبا عقيل والتيسير وأيت منا والصويري وصولا إلى أخنوش. أما الفاسيون فاهتموا بصناعة النسيج والجلد والبناء، فيما اختار أهل الريف التجارة قبل أن تصبح الهجرة إلى الخارج طقسا من طقوس حياتهم. لكن القاسم المشترك بين الفئتين ونقطة الالتقاء هي الدار البيضاء، إذ نادرا ما نعثر على سوسي اختار الاستقرار في فاس، أو فاسي يمارس تجارته في سوس.
تقول الدراسات التي لامست قضايا الهجرات الداخلية، إن الأب أو رب الأسرة هو المنارة التي يهتدي إليها المهاجرون، فأينما استقر به المقام يستقطب أبناءه وأفراد عشيرته. وأرجع كتاب «واتربوري» هذه الظاهرة إلى نوع من «العادة التي استقرت وسط العائلة السوسية، فأينما ذهب الأب يتبعه الأبناء وأفراد العائلة. إن الطفل الصغير الذي يبدأ حياته العملية كمساعد في متجر يندمج على مرور السنين في دواليب المهنة والوسط، ويستعد للحصول على مكانته في سن الرشد، ومن الأسباب والعوامل التي تسهل هذا المنحى ـ الذي يكاد يكون عاما ـ أن المقاولة السوسية ترتكز بالأساس على العلاقات العائلية وعلى التمويل الأسري ونادرا ما تلجأ إلى الغير». لكن الحس التجاري ينمو مع أبناء مناطق سوس وحاحا وفاس وجبالة، رغم الاختلاف الحاصل في طبيعة النشاط التجاري، بل إن بعض العائلات اختارت التحالف عبر مؤسسة الزواج.
عمر التيسير “نص بلاصة”
بدأ مشواره بائعا للبيض بالتقسيط، وبعد سنوات أصبح مشروع مقاول، ومع إشراقة شمس كل صباح يزحف عمر نحو الثراء، لكن زحفه ظل بعيدا عن الأضواء وعن السياسة.
قيل الكثير عن عمر التيسير“نص بلاصة”، ونسج الكثيرون حكايات حوله، لم يكتب للرجل أن يحضر حفلات تدشين كثير من الأوراش التي فتحها، وغادر الحياة الدنيا كما دخلها، مات الرجل في 26 ماي 1979. وحين مات وقف الجميع شاهدا على قبره بمقبرة الشهداء لتأبين رجل عصامي بنى ثروته من عرق الجبين، قبل أن ينسحب في هدوء، دون أن يكون للحكاية تتمة في عالم المال والأعمال.
ولد عمر التيسير بأحد دواوير تمنار “حاضرة” منطقة حاحا، وشمر مبكرا على ساعد الجد. لقد وجد عمر نفسه في مواجهة الحياة وعمره لا يتجاوز 12 سنة، كان مجبرا على إعالة أسرته في ما يشبه المعادلة المعكوسة، وفي سن 12 بدأ حياته في عالم “بيزنيس” بفكرة أعفى من خلالها نساء الدواوير من التنقل إلى السوق، إذ كان يشتري منهن ما جمعنه من بيض، دون أن يسلمهن مقابل البضاعة، لكن الفتى كان عملته “الكلمة” فأسس علاقة ثقة مع النساء.
ظل عمر يتنقل، بين الدواوير مشيا على الأقدام متحديا ظروف الطبيعة، بل إن أصل اللقب الذي التصق به في حياته يعود إلى إصراره على التنقل بين حافلات نقل المسافرين، دون أداء الثمن الكلي للتذكرة، حيث يكتفي لصغر سنه بأداء نصف الثمن، ما جعل سائقي ومحصلي الحافلات يلقبونه ب”عمر نص بلاصة”.
اشتغل بعذ ذلك في الأحجار بعد علمه أن شركة فرنسية تحتاج إلى كمية من الأحجار المكسرة لاستعمالها كأسس لبناء الطرق ورفض الالتحاق بها كعامل، ثم شاءت الأقدار أن يؤسس مقاولته الصغيرة ويقتني عتادا بسيطا وشاحنة ويقرر الاشتغال في بعض المشاريع الصغرى، استوعب الرجل جيدا قولة محمد الخامس الشهيرة: «لئن حكمت الأقدار بخراب أكادير، فإن بناءها موكول إلى إرادتنا». اشتغلت مقاولة عمر التيسير إلى جانب الجيش الملكي بقيادة الجنرال ادريس بنعمر، الذي وفر الخيام العسكرية، وقامت شاحنات عمر بنقل المساعدات الإنسانية والمؤن الغذائية، فيما كانت جرافاته تمسح مخلفات الدمار من أحياء تالبورجت وفونتي وأحشاش. ولم يتوقف دوره عند الإسعاف والإجلاء، بل ساهم في بناء مدينة أكادير الجديدة على بعد ثلاثة كيلومترات إلى الجنوب من الموقع الأصلي للهزة. بل إنه أنشأ مقرا اجتماعيا للشركة في هذه الحاضرة الجديدة كي يكون أقرب إلى مواقع العمل الذي فتح فيه عشرات الأوراش. ثم انطلق في إعمار المدينة، مما جعله يحقق أرباحا خيالية ويحظى باستقبال ملكي، ومنذ ذلك الحين ارتفعت أسهم الرجل الذي اشترى أسهم شركة فرنسية، واقتحم مجالات أخرى أغلبها “مكاتب” تابعة للدولة على غرار المكتب الشريف للفوسفاط والمكتب الوطني للماء والكهرباء والمكتب الوطني للسكك الحديدية..ولقد كان فضله كبيرا في شق الطريق الوطنية بين مراكش وأكادير رغم وعورة التضاريس.
إعجاب الملك الراحل الحسن الثاني ب”نص بلاصة” تُرجم بمشاريع كبرى لمقاولة “الحاج”، فنافس كبريات الشركات الفرنسية، بل فوت له الملك الحسن الثاني مشاريع خارج المغرب، فبنى في العاصمة الغينية جامعها الكبير، كما بنى الجامع الكبير بدكار، إضافة إلى مشاريع أخرى بالغابون..وغيرها..
ولم يقتصر مجال اشتغال مقاولات عمر على الطرق والمساجد، بل انخرط في تشيد منشآت كبرى كالمركب الرياضي الأمير مولاي عبد الله وغيرها كما كان من الأوائل الذين وظفوا التقنيات والسواعد الصينية بالمغرب…
رحم الله هذا العصامي وجعله للشباب مثالا في الجد والمثابرة والاعتماد على الذات.
Comments