لن ننسى عندما طرد حكام الجزائر مغاربة صبيحة يوم عيد الأضحى عملية مصنفة في خانة الجرائم النازية ضد الإنسانية.
تذكرت بيتا من قصيدة الشاعر الجاهلي طرفة ابن العبد الذي قال فيها: “وظلـم ذوي القربـى أشــدُّ مضـاضـة على المرء من وقع الحسام المهند”
مأساة عيد الأضحى.. لحم بطعم المرارة ولعنة طاردت الأسماء العائلية
آلام وأحزان وجراح غائرة تلازم أغلبية الضحايا طيلة ال45 سنة وتحولت إلى كوابيس تطاردهم كأشباح ليل نهار، ولا زالوا يحكون ذكرياتها في كلّ مناسبة، لكلّ جزائري ولكلّ مغربي، ويلقنونها لأطفالهم، بشتى الطرق ومختلف الأساليب ولا زال الاحتجاجات مستمرة ونضالات الجمعيات متواصلة داخل المغرب وخارجه أمام مقرات قنصليات وسفارات الدولة الجزائرية والمنظمات والجمعيات الحقوقية الدولية، للجهر بهذه الجريمة والمطالبة باسترجاع الحقوق وجبر الضرر..
في الأسبوع الثاني من شهر دجنبر سنة 1975، كان هدير الحافلات يسمع من مكان بعيد في المنطقة الحدودية بين المغرب والجزائر. كنا يومها في المغرب نعيش أجواء احتفالية بنجاح المسيرة الخضراء، والصيت العالمي الذي اكتسبته فكرة الملك الراحل الحسن الثاني لتوحيد جنوب المغرب مع شماله. كان الرد الجزائري، والذي كان وقتها ممثلا في سلطة هواري بومدين، هو ترحيل مغاربة بعدد الذين شاركوا في المسيرة الخضراء، واقتُرح عليه أن يسميها مسيرة «سوداء»، أو «كحلا» باللهجة المحلية استفزازا للمغرب. كانت مأساة إنسانية بكل المقاييس عانت من ويلاتها أسر مغربية وجزائرية أيضا.
عملية تهجير قسري
اتخذ النظام الجزائري قرار الطرد التعسفي في حقّ المغاربة وتجريدهم من ممتلكاتهم وفصل الزوج عن زوجته والزوجة عن زوجها والأطفال عن أمهاتهم وآبائهم وتشتيت الأسر وأرامل الشهداء المغربة في سبيل استقلال الجزائر وأيتامهم، بسرعة فائقة وتنفيذه بطريقة أسرع. أخرج المواطنون المغاربة القاطنون فوق التراب الجزائري وهم الذين ضحوا في سبيل تحرير الجزائر و ساهموا في بنائها، أخرجوا من ديارهم ومنهم من لم يجد حتى فرصه الالتحاق ببيته، ولم يترك لهم الفرصة لتدبير أملاكهم أو أمتعتهم، فتركوا كل شيء وعادوا وكلهم حسرة ضد قرار جائر اتخذ دون أدنى اعتبار، منهم من ترك أبناءه ومنهم من ترك زوجته ومنهم من عاد دون آبائه…
بلغ عدد المطرودين 75 ألف مغربي ومغربية فرقت السلطات الجزائرية بينهم و وصل إلى 350.000 خلال نزاع الصحراء، ونشرت هذه الأرقام في الصحف المغربية والدولية يوم ذاك. ويروي عدد من المطرودين ان عائلاتهم طردت من منازلها بلباس النوم ..” ويروي آخرون تفاصيل موجعة عن ما لحقهم من أذى وإذلال من طرف الجزائريين و أنهم تعرضوا لمعاملات سيئة حين طردوا ليلا، وصلت حد الاغتصاب والتجريد من الممتلكات والخروج من الجزائر بما عليهم من ملابس فقط، والتخلي عن الممتلكات والأموال، وإذا أرادوا البقاء في الجزائر فعليهم أن يعترفوا بجبهة البوليساريو أو تقديم دعم مالي لها. بلغ عدد المطرودين من الجزائر بسبب نزاع الصحراء 350 ألف شخص، وهو نفس العدد الذي حركه المغرب في المسيرة التي أطلق عليها الحسن الثاني “المسيرة الخضراء” .
يحكي العديد من المغاربة المطرودين ضحايا الترحيل التعسفي من الجزائر أن قوات الأمن السرية والعلنية والدرك الوطني والعسكر، قامت باقتحام منازل المغاربة تحت جنح الظلام وتكبيل كل من في المنزل واقتيادهم إلى مخافر وشحنهم كالحيوانات فوق شاحنات كانت مخصصة لتلك العملية البغيضة المصنفة في خانة الجرائم النازية ضد الإنسانية، في عز فصل بارد قاس قسوة قلوب جنرالات الجزائر على المغرب، ومن المغاربة من رحل بلباس نومه ومنهم من أخرج عاريا إلا من تبانه ومنهم من… مأساة حقيقية بطلها نظام هواري بومدين وجريمة ارتكبها النظام الجزائري في حق مغاربة لا ذنب لهم، بتهجيرهم قسريا وتشتيت أواصرهم وسلب ممتلكاتهم، كما تعرضوا لأبشع ممارسات التنكيل عند نقط التفتيش في اتجاه الحدود بشكل مهين ولا إنساني.
وزارة الداخلية رفضت رد الصاع ولم تُرحّل جزائريا واحدا
يشعر جزائريون كُثر بالحسرة على ما آلت إليه الأوضاع سنة 1975، خصوصا منهم الذين كانوا يقطنون في المغرب ولا يزالون. عندما وصل خبر تجميع الجزائر للمواطنين المغاربة ورميهم في الحدود، إلى الرباط تحركت وزارة الداخلية وقتها عبر مكتب الشؤون السياسية ومصالح إدارية أخرى، إلى الاتصال بالسلطات المحلية في مدينة وجدة، وإصدار تعليمات عاجلة لاستقبال المُرحلين وتوفير الخيام حتى لا يبيتوا ليلتهم الأولى في العراء.
لا شك أن الدولة المغربية كما الأسر المطرودة، تفاجأت بما حدث، وفي محاولة منها لإيجاد حلول لآلاف الأُسر المطرودة والمُشرَّدة على الثغور الحدودية، مئات الخيام نُصبت آنذاك على مستوى الساحات الكبيرة بمدينة وجدة، شرقي المغرب، لاستقبال ضحايا الطرد التعسفي، مخيمات حفتها الآلام والبكاء والعويل، وحملت أسماء “لافوار” و”روك 1″ و”روك 2″، قبل أن تعمد الدولة إلى ترحيل الأسر إلى مختلف المدن المغربية، حتى تتكلف كل عمالة بجزء من الأعباء والأسر.
يحمل الكثيرون من الذين ذكريات كثيرة عن ذلك المخيم، حتى أن بعضهم يحملون إهداءات منه على أجسادهم ويحملون معهم آلاما في المفاصل نتيجة تعرضهم للبرد الشديد. الراحل الملك الحسن الثاني رحمه الله كان موقفه حاسما، وارتأى أن تركز الدولة على احتواء المشكل بدل الرد على الجزائر، خصوصا أن المغرب كان منتصرا بفضل الخطوة الكبيرة التي قام بها في الصحراء، بعد المسيرة الخضراء بشهر واحد فقط.
لذلك كان الهدوء يسيطر على المشهد كلما ابتعدت من الحدود من الداخل. وبقيت المخيمات قائمة إلى أن تمت دراسة كل الملفات التي تم إنشاؤها لكل أسرة تم ترحيلها من الجزائر، وظل موضوع ممتلكات المرحلين موضوع صراع، خصوصا وأن البعض فكروا في التوجه إلى محكمة لاهاي الدولية، للمطالبة بتعويض عن ممتلكاتهم التي فقدوها في الجزائر. بعض المطرودين قالوا إن الجزائريين الذين أشرفوا على الترحيل كانوا يركزون على ألا يصطحب أي مغربي وثيقة إدارية معه، لكن الجميع تقريبا حرصوا على أن يدسوا أوراق ممتلكاتهم وبطائقهم في أجساد أبنائهم الصغار أو في تلابيب ثياب زوجاتهم لأنهن كن معفيات من التفتيش. وهكذا نجح أغلب المُرحلين في أن يحتفظوا بوثائق ملكية عقارات وحسابات بنكية في الجزائر، لكنهم لا يملكون حق استردادها لأنها صودرت من طرف الدولة بشكل رسمي. بخصوص موضوع الجزائريين القاطنين في المغرب، فقد بقوا مقيمين بشكل طبيعي ولم يشملهم أي ترحيل مغربي، حتى أن بعضهم قدموا الدعم النفسي والمعنوي للأسر المغربية التي تم ترحيلها من الجزائر، وأبان أغلبهم عن استعدادهم للعب دور الوسيط بين الأسر المُرحلة إلى المغرب وبين الأسر الجزائرية هناك، بشكل تطوعي، بما أن الجزائريين كانوا يتحركون بحرية بين البلدين، في مشهد إنساني تحدى الحدود والخلافات السياسية، فيما أغلب المغاربة لم يستطيعوا العودة إلى الجزائر لصلة أرحامهم إلا في التسعينات، ليجدوا أن كل ملامح وجودهم في الجزائر قد ضاعت، وإلى الأبد.
Comments