top of page
Photo du rédacteurAA

الفلسفة والدين وعلوم الغير من منظور أبو الوليد ابن رشد


الفلسفة والدين وعلوم الغير من منظور أبو الوليد ابن رشد.

المصطفى عبدون


تُعتبَر إشكاليةُ التوفيق بين العقل والإيمان من أمَّهات الإشكاليات التي شغلت بال الفكر البشري منذ زمن بعيد وخاصة الفلسفة الإسلامية والفكر الإسلامي، فمنهم مَن أخضع الدين للفلسفة، ومنهم مَن أخضع الفلسفة للدين. وظل الخلاف محتدمًا بين الفقهاء والفلاسفة، حتى قام ابن رشد، ساعيًا إلى التوفيق بين النقل والعقل، وبين الشريعة والحكمة، ولاسيما في كتابه الشهير “فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من اتصال” – تحقيق محمد عابد الجابري – مجيبًا عن تلك الإشكالية التي تتلخص في المسألة التالية: هل النظر الفلسفي مباح في الشرع أم محظور؟

 يبدأ كتابه بالقول: فإن الغرض من هذا القول أن نفحص على جهة النظر الشرعي هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع؟ أم محظور؟ أم مأمور النظر به؟ فهل هو إما على جهة الندب أو على جهة الوجوب ؟

يقرر ابن رشد أن: الفلسفة .. ليس شيئاً أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع بمعرفة صنعتها. أنه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتم كانت المعرفة بالصانع أتم. فأما أن الشرع دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل، وتطلب معرفتها به، فذلك بيّن من غير ما آية من كتاب الله تبارك وتعالى مثل قوله تعالى:(فاعتبروا يا أولي الأبصار) وهذا نص على وجوب استعمال القياس العقلي والشرعي معاً ومثل قوله تعالى: (أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء).

وإذا تقرر أن الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها… وكان الاعتبار ليس شيئاً أكثر من استنباط المجهول من المعلوم … واستخراجه منه وهذا هو القياس… فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي. وإذا كان الشرع قد حث على معرفة الله تعالى وسائر موجوداته بالبرهان وكان من الأفضل أو الأمر الضروري لمن أراد أن يعلم الله تعالى وسائر الموجودات بالبرهان أن يتقدم أولاً فيعلم أنواع البراهين وشروطها وبماذا يخالف القياس البرهاني القياس الجدلي والقياس الخطابي والقياس المغالطي.

وإذا كانت هذه الشريعة، حقاً وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق فإنّا نعلم على القطع أنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع. فالفلسفة والشريعة هما أختان – لا بالنسب – بل بالرضاعة وترضعان من منبع واحد وهو الحق. والحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له وتسعيان، كما يقول محمد عابد الجابري، نحو غرض واحد هو “الفضيلة”. ولذلك فهو يقول أن النظر في أمور الشريعة بمنظور فلسفي، يجعل ممن ينظر في هذه الأمور أكثر قدرة على إدراك المقاصد، ما ظهر منها وما لم يظهر في النص بصراحة. وهو يعتبر أن من الواجب لمن يريد أن يدرس النصوص الشرعية أن يكون متمكناً من علوم المنطق، فالمنطق هو البرهان العقلي المبني على القياس المحكم للقضايا.

يبين ابن رشد ضرورة الاستفادة من جهود القدماء، فالنظر في كتبهم واجب بالشرع، سواء كانوا مشاركين لنا في الملة أو غير مشاركين: فقد يجب علينا إنا ألفينا لمن تقدمنا من الأمم السالفة نظراً في الموجودات واعتباراً لها بحسب ما اقتضته شرائط البرهان، أن ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم، فما كان منها موافقاً للحق قبلناه منهم وسررنا به وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهناهم عليه وحذرنا منه وعذرناهم.

قام ابن رشد بتصنيف أنواع القول الديني انطلاقا من مراتب الناس في الفهم والمعرفة: وإذا تقرر هذا كله، وكنا نعتقد معشر المسلمين أن شريعتنا هذه الإلهية حق، وأنها التي نبهت على هذه السعادة، ودعت إليها، التي هي المعرفة بالله عز وجل وبمخلوقاته، فإن ذلك متقرر عند كل مسلم من الطريق الذي اقتضته جبلته وطبيعته من التصديق. وذلك أن طباع الناس متفاضلة في التصديق: فمنهم من يصدق بالبرهان، ومنهم من يصدق بالأقاويل الجدلية تصديق صاحب البرهان بالبرهان، إذ ليس في طباعه أكثر من ذلك، ومنهم يصدق بالأقاويل الخطابية، كتصديق صاحب البرهان بالأقاويل البرهانية. وينتج عن هذا، أن الإفصاح بالحكمة لمن ليس من أهلها يلزم عنه إبطالُ الحكمة أو إبطالُ الشريعة. والصواب ألا يصرَّح بالحكمة للجمهور. وذلك أنه لما كانت شريعتنا هذه الإلهية قد دعت الناس من هذه الطرق الثلاث، عم التصديق بها كل إنسان، وذلك صريح في قوله تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن).

يتبين مما سبق، أن ابن رشد أسس رؤيته للعلاقة بين الفلسفة والدين وعلوم الغير على أسس عقلية صلبة وثابتة تقوم على معرفة الحق معرفة حقة، فهو بدون شك، أحد كبار الفلاسفة في الحضارة العربية الإسلامية الذي ترك للإنسانية مآثر علمية جليلة استفادت منها بلاد الغرب. حوالى منتصف القرن الثالث عشر، انتشرت مؤلَّفاته بين الباحثين الأوروبيين، وشاعت آراؤه في أوساط المثقفين، وتغلغلت فلسفتُه في الجامعات، وبالأخص جامعة باريس. كان أكثر الأساتذة الذين سُمِحَ لهم بتدريس فلسفة أرسطو يعتمدون بالدرجة الأولى على شروح ابن رشد الذي اشتهر باسم “الشارح”. فهو يعتبر واحد من أهم الشخصيات الرئيسية التي مهدت لعالم الحداثة في أوروبا في القرن الثامن عشر، وهذا نظرًا للدور الهام الذي لعبه في إضافة حلقات كبرى إلى تاريخ الفلسفة، ولجهوده المحمومة في شرح النصوص اليونانية والحفاظ عليها. بعدما تمسَّك بشرايين الفلسفة وسمَّاها بـ”علم البرهان”، متجاوزًا بذلك النشاط التأملي البحت للفلسفة، بما يفضي إلى دراسة الواقع دراسةً دقيقة. إلا أن حظه كان سيئا لما لاقاه في آخر حياته من أبناء جلدته، حيث لم تشفع لهذا الفيلسوف الفذ إنجازاتُه النوعية والنباهةُ التي جُبِلَ عليها، فقد تعرض لمحنة حيث اتهمه علماء الأندلس والمعارضين له بالكفر و الإلحاد، فأمر يعقوب بن يوسف الملقب بالمنصور الموحدي بنفيه إلى قرية كانت لليهود، وأحرقت كتبه، وأصدر منشورًا إلى المسلمين كافَّة ينهاهم عن قراءة كتب الفلسفة، وتوفي بمراكش1198 م.

27 vues0 commentaire

Comments


bottom of page